الخميس، 13 يونيو 2013

صفحة الوفيات .. التاريخ السري للموتى

* صفحة الوفيات هي الصفحة الوحيدة التي ، استطيع أن أقول لكم ، أنها تخلو من الكذب ، في كل الجرائد القومية ، والتي تنشر الحقيقة كاملة دون تزييف ، ربما لأنه لا توجد حقيقة أوضح وأنصع من
الموت ، صفحة الوفيات والتي اعتاد قراؤها البحث عنها في الصفحات الأخيرة من جرائدهم تنتقل إلى الصفحة الأولى في حالة وفاة شخصية قيادية كبيرة وفي هذه الحالة يرصد المصريون من يسمونهم " المشتاقين " إلى مناصب كبيرة عند رحيل ابن أحد المسئولين ، أو قريب له ، حيث يكشف النعي ماذا ييد ناشره ، مجرد العزاء أم وظيفة جديدة ومقعد جديد ، ومؤخرا تحولت معظم صفحات الصحف الأولى إلى صفحات وفيات مع تزايد عمليات العنف في أرجاء العراق ولبنان وفلسطين .
ثمة مقولة قديمة يرددها المصريون للتدليل على مدى ارتباطهم بنشر نعي موتاهم في صفحة الوفيات بجريدة الأهرام " من لم ينشر نعيه في الأهرام فكأنه لم يمت " والتي عادة ما تخصص صفحتها قبل الأخيرة للوفيات والنعي ، وربما يزيد الأمر فتخصص أكثر من صفحة .
* وعدد كبير ممن أعرفهم ، لا سيما الكبار في السن ، يفضلون ان يبدأوا يومهم بقراءة صفحة الوفيات ، للتعرف على من رحل من معارفهم وأصدقائهم ، والمشاهير ، حتى يبادروا بالعزاء أو بنشر نعي مناسب ،وارتبطت صفحة الوفيات بجريدة الأهرام ، ويقارب عمر هذه الصفحة عمر الجريدة ذاتها ، غير أنها لم تصبح بهذا الشكل الرسمي إلا في أوائل القرن الماضي ، وكان قبل ذلك ينشر النعي متفرقا ، ثم انتقلت صفحة الوفيات بعد ذلك إلى باقي الجرائد التي لم تستطع أن تنافس الأهرام في تميزها وظلت صفحة الوفيات مرتبطة بصحيفة الأهرام ، وإذا كان المؤرخ المعروف يونان لبيب رزق يسمي جريدة الأهرام بديوان الحياة المعاصرة ، فإن صفحة الوفيات بها بمثابة التاريخ السري والحقيقي والصادق لحياة المصريين ، حيث أنها تكشف شجر عائلاتهم ، وارتباطاتهم الاجتماعية ، وعلاقاتهم الأسرية ، وتربيطاتهم في العمل أيضا .
* ويختلف حجم النعي في صفحة الوفيات حسب شخصية والمركز الاجتماعي للمتوفي ، فهو يبدأ من سطور قليلة في صفحة الوفيات ينشرها أهل الميت عقب وفاته أو في ذكرى مرور أربعين يوما على رحيله ، ويذكر فيها عادة أسماء أقاربه ، مع دعواتهم له بالرحمة والمغفرة ، وقد ينشر مع هذا النعي صورة ، يأتي بعد ذلك نعي أصحاب الشركات أو بعض الرجال المهمين في مناصبهم ، وهؤلاء عادة ينشر نعيهم ، أو نعي أقاربهم مشفوعا بأسماء الموظفين الكبار في هذه الشركات ، ويمكن للمتتبع لهذه الإعلانات أن يرصد عن طريق هذه الإعلانات شبكة المصالح بين رجال الأعمال والموظفين ومديري البنوك ، وعادة ما يكون هذا الإعلان ربع صفحة مع صورة كبيرة ، لكن أكبر نعي فهو عادة يكون مع رحيل أحد الزعماء حيث يملأ النعي صفحة كاملة ، فجريدة الشرق الأوسط أصدرت ملحقين منفصلين عند رحيل الملك فهد لتغطية العزاء والنعي ، حتى زاد عدد صفحات الجريدة عن المائة صفحة .
* وإعلان الوفاة يكون فيه اسم المتوفي بالبنط الكبير يتبعه التسلسل العائلي بالبنط الصغير ، مع ذكر الوظائف لكل شخص من أقارب الميت ،وهو ما يجعل النعي راويا لتاريخ الميت السري ، لأقربائه ، لأصدقائه ، لأهله ، ووظائفهم ، وكثير من المصريين يكتشفون تسلسل عائلات المشاهير ، والكثير من تفصيلات حياتهم عن طريق صفحة الوفيات .
* الأمر لا يتوقف عندنا كمصريين فحسب ، فقد أصدر الصحفي السويسري " برتولد جاكوب " عام 1935 وحوى الكثير من أسرار الجيش النازي حتى قبل أن يعلن هتلر نواياه بالاستعداد لغزو العالم وإقامة إمبراطورية نازية كبرى ، وهو ما أصاب جنرالات النازية بالجنون ،وفجر غضب هتلر نفسه ، مما جعله يستدعي قادة أمنه ويدفعهم إلى القيام بعملية اختطاف " جاكوب " من سويسرا و إحضاره إلى برلين لمعرفة كيف توصل إلى الأسرار التي نشرها في كتابه ، وكانت المفاجأة أن " جاكوب " قد حصل على كل المعلومات الواردة في كتابه من صفحة الوفيات في الصحف الألمانية وحدها .
" الجنرال فلان قائد الفرقة كذا المتمركزة في المنطقة س ينعي زوجته الراحلة ، والجنرال فلان قائد الفرقة كذات والمتمركزة في المنطقة ص تواسي قائدها الجنرال فلان بسبب كذا وكذا " عشرات المعلومات وجدها "جاكوب " متناثرة في الصحف وكل ما فعله أن قام بجمعها وأعاد ترتيبها وحصل منها على معلومات عظيمة كشفت توزيع وتنظيم الجيش النازي كله ، وبعد هذه الواقعة لم تعد الصحف الألمانية أو أية صحف أخرى في العالم تنشر أية معلومات عن رجال الأمن لا في صفحة الوفيات ولا أية صفحة أخرى .
* ثمة تيمات معروفة تكتب في النعي الذي ينشر في صفحة الوفيات ، فبخلاف الذين يكتبون شعرا رثاء للفقيد ، نجد أن النعي يبدأ بعبارة "البقاء لله ، أو إنا لله و إنا إليه لراجعون توفى إلى رحمة الله فلان الذي يعمل في مهنة كذا ،ووالد فلان الذي يعمل في وظيفة كذا وشقيق فلانة زوجة المهندس فلان " وهكذا ، أما الأقباط فإنهم عادة يبدءون نعيهم قائلين " الأبرار يضيئون كالشمس في ملكوت أبيهم ، رقدت على رجاء القيامة عروس السماء الآنسة س المحاسبة بشركة ص كريمة المرحوم ع .... عزاؤنا أنك بالسماء .. شقيقتك ووالدتك س وص " ويكشف طول النعي عن المكانة الاجتماعية التي يحتلها المتوفي وكثرة أقاربه ومعارفه وتأثيره في الحياة العامة .
* وكادت واقعة متعلقة بصفحة الوفيات أن تكون سببا في دخول الكاتب الراحل عبد الحميد جودة السحار السجن ، حيث ردد نكتة في الستينيات تقوا أن رجلا كان يذهب كل يوم إلى بائع الجرائد وينظر إلى العناوين ثم يعود دون أن يشتري شيئا ، وظل يفعل هكذا عدة أيام ، وفي يوم سأله بائع الجرائد : لماذا تفعل هذا ؟ فقال الرجل : أنتظر وفاة خبر وفاة أحد الأشخاص ، فقال البائع : لكن أخبار الوفاة تنشر في صفحة الوفيات بالداخل ، فقال الرجل : من أنتظر وفاته يموت في الصفحة الأولى .
* ونعي المتوفى في قرانا البعيدة الطيبة يعتمد على تناقل الخبر بين الجيران وأهل القرية، بالإضافة إلى إذاعة شيخ القرية لخبر الوفاة من المسجد.
* أما في المدينة، فالأمر يختلف بسبب بعد المسافات حتى داخل المدينة الواحدة، فالنعي أصبح لإخبار الناس عن وفاة شخص لتقبل العزاء فيه وليس لدفنه والصلاة عليه؛ ذلك لأنه يكون لاحقًا لدفن المتوفى فيتمعن طريق ما يسمى بالإذاعة المحلية ، وهي عبارة عن ميكروفونات منتشرة في أرجاء المدينة تبث خبر الوفاة ، بينما يلجأ البعض إلى استئجار سيارة لتطوف أرجاء المدينة أو القرية لنشرالخبر وذكر أقاربه ووظائفهم أيضا .
* ويحرص أبناء المشاهير والصاعدون على ذكر ارتباطهم إلى عائلاتهم ، ويعتبرون ذلك إعلانات مدفوعة الأجر لهم ، وحافزا لهم في أعمالهم ، وهو ما يوضح اعتناء كبيرا بالشكليات ، كما قد يكشف النعي عن بعض الخلافات العائلية فقد نجد في نعي أن الميت نجل فلان وشقيق فلان ، وفي نعي آخر أنه زوج فلانة ابنة فلان وهو ما يكشف عن وجود خلاف عائلي في موضوع الزواج .* وتختلف صياغة النعي حسب التوجه السياسي للميت فالإخوان المسلمون يكتبون
" مأمون الهضيبي واخوته يحتسبون عند الله أخاهم فلان " ويكتب اليساريون مجموعة أسماء يتبعونها بأنهم ينعون المناضل الكبير ، أما الوفديون فيحرصون على وجود عبارة " القطب الوفدي " في وصف الميت .
* و أخيرا أصبحت رسوم الكاريكاتير تقوم مقام صفحة الوفيات ، فحين يموت أحد الرسامين نجد زملاءه يرسمون ريشة تبكي ، وحين يرحل أحد الكتاب الكبار فإنهم يرسمون قلما بجناحين يطير تجاه الجنة ،أما في حالة رحيل أحد الزعماء فإن الرسامين يرسمون بلدته على هيئة امرأة حزينة تبكي عليه .
* وكما تسببت صفحة الوفيات في التعريف بشجرة عائلة العديد من المشاهير كانت سببا في العديد من المواقف الملتبسة خاصة مع تشابه الأسماء ، وهو ما حدث مع أنيس منصور في الأسبوع الأخير من شهر أغسطس قبل الماضي حيث نشرت الأهرام نعي رحيل أنيس منصور ، وهو ما جعل الاتصالات تنهال على مدير مكتبه لتعزيته وعلى هاتفه الخاص حيث كان يقضي إجازته السنوية في مصيف مارينا للتأكد من صحة الخبر ، وتبين بعد ذلك أن الذي رحل شخص آخر يحمل اسم محمد أنيس منصور ، وهو رجل أعمال اشتهر بمفارقاته الكثيرة مع الكاتب الذييحمل نفس الاسم "أنيس محمد منصور " ولكن بصياغة أخرى
* ومن المواقف الشهيرة المرتبطة بصفحة الوفيات أنه يروى أن الكاتب الراحل أنطوان الجميل رئيس تحرير جريدة الأهرام في بدايات القرن الماضي وصل إليه نعي أحد الأشخاص لينشر في صفحة الوفيات، لكن يبدو أن النعي وصله متأخرا، فكتب أنطون لعمال الجمع أسفل النعي " إن كان له مكان " ، أي ينشر إذا كان هناك مكان في صفحة الوفيات، لكن النعي ظهر في صفحة الوفيات في اليوم التالي هكذا " فلان الفلاني... أسكنه الله فسيح جناته .. إن كان له مكان " . لكن أظرف نعي شهدته صفحة وفيات هو ما نشرته صحيفة أمريكية عام 1875 خطأ عن وفاة الأديب الكبير فيكتور هوجو، وبعد عشر سنوات مات هوجو فعلا، فكتبت الصحيفة عنوانا كبيرا " نحن أول من أعلن وفاة هوجو".


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق